فلسفة النشــــــوء الحضاري في الإسلام
الرؤى التي أولدت عن مخاضات التجربة البشرية، والطروحات التي انبثقت من قبل المفكرين الإسلاميين أو غيرهم ممن تكلموا أو كتبوا في فلسفة الحضارة، وحركة التاريخ، كثيرة. كل بما يرى حسبما ينطلق منه. لحق ذلك أن كثيراً من تلك الرؤى تأطرت شكلاً مدرسياً، وتسنّمت وجوداً حاكماً، كما عن فلسفة التاريخ والتناقض الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا للماركسية أو قد يضعونه بشكل آخر حين التعمق وذاك في حدود العامل الاقتصادي الزوجي المتمثل بالحاجة والوسيلة. وكما في الهتلرية، انطلاقاً من (نيتشه) أو (أزوالد شبنجلر) صاحب الكتاب الشهير (أفول الغرب) أو (تدهور الحضارة الغربية) ـ حسب الترجمات ـ في فلسفة الحضارة باعتبارها ثمرة لعبقرية خاصة (وهكذا نجد في هذه النظرية العامل العنصري يتسرب على يد شبنجلر إلى المذاهب التاريخية، وهو العامل الذي سوف يتاح لدوره التاريخي فيما بعد، أن يحقق اكتماله المنهجي في المدرسة الهتلرية على يد روزنبرج). لذلك لابد في مسيرة شروط النهضة أن يُطلع على الألوان التي عرف بها العقل البشري وأثرت سلباً وإيجاباً في أوضاعه الجماعية، هذا الإطلاع ترافقه الآفاق القرآنية، باعتباره المصدر الأول للكليات والقواعد والأسس التي يمكن منها الوصول إلى ركائز الحضارة.
بعد أن وضّح في العدد السابق تبيين القرآن وإشارته لوجود السنن حاكمة في مسيرة الإنسان، تغلّف حركته، وبالتالي النهوض والاستخلاف يتم بفهم وتطبيق هذه السنن.. بل هو رهين ذلك، وتطرّقنا إلى آلهيتها، بمعنى أن الله ـ تعالى ـ زرعها في الكون ضمن النظام العام الذي يتسق وحكمته في إيجاد الإنسان وكيفية الاستخلاف في الأرض واختباره فبذلك (لا شك أن أول أساس بنيت عليه الحضارة الإسلامية ـ التي أنقذت العالم من الويلات، ودفعته إلى التقدم الهائل في أبعاد الحياة ـ هو القرآن، ولذا فمن الضروري ـ إذا أردنا إعادة الحضارة الإسلامية ـ أن نبنيها على القرآن مرة ثانية). علماً أن عرض تلك السن إما مباشرة أو انتزاعياً أو توجيهياً يحتاج أو لا يحتاج للانتزاع حسب وضوحه. فمرة تكون السنة أو تأتي بصيغتها الكلية في شكل قاعدة (وهذه تمتلك أشكالاً سيأتي توضيحها لاحقاً إن شاء الله).
وفي بعض الحالات أعطت مصداقاً معيناً لا عليك إلا أن تنتزع منه القاعدة بما عرض من تطبيق لها ضمن إطار بداية ونهاية بإرجاع البداية الجزئية إلى مفهوم كلي، فالإيقاع بالآخرين أو التوجيه لغير الحقيقة يمكن إرجاعه إلى المكر والخديعة وهما يمتلكان إطاراً كلياً يضم مجموعة من المصاديق. فإطار البداية والنهاية بترقية من جزئية إلى كلية ـ يكون سنة تجري على الوقائع الأخرى التي تدخل تحت مفاهيم الكلية. ومرةً ثالثة بعض الآيات جاءت تحثّ على الاستقراء والفحص في الشواهد التاريخية للوصول إلى سنة تأريخية.