الفاتحة
د . محمد نجيب المراد
إلى أمي رحمها الله
" ياسيدة نساء أهل الأرض جعلك الله في صحبة سيدة نساء أهل الجنة وجعلني خادماً لكما".
كيف كان اللقا ، وكيف السلام
أخبريني ، وأطنبي ياختام
مر عامان ياحبيبة عمري
وحياتي والله … موت زؤام
مر عامان والمصائب تترى
حبس المد ، وإنتهى الإكرام!
ليت أني لما إرتحلت لك النعش …..
وأني لما دفنت المقام.
صمت الكون كله في إضطراب
وعلا طلعة الصباح الطلام
عندما قيل "يايتيم" انتهينا
ذهبت ، من لأجلها لا تضام
************************
فتحت بعدك الجحيم فنار
من هنا ومن هناك ضرام
وبقوس كل البلاء رماني
ففؤادي قد مزقته السهام
من عظامي قبضت ذات غروب
كيف تحيا من غير روح عظام
ساجاً كنت فاعتراني ارتعاش
فصلت بعده العرى والذمام
قبل كل الأنام أدركت أني
لم يعد لي على الغروب "أنام"
************************
عندما جاءني النذير صباحاً
قلت ألق القميص جاء الحمام
ذهبت الكنز والشباب وعزي
وفقدت اللوا وضاع الزمام
آه يا أم كم تمنيت لكن
لم يعد لي على الردى أحلام
لم يعد لي في آخر الليل مأوى
لا شراب مطهر أو طعام
أو فراش مطرز من حنان
دفء كفيك فوقه والوئام
أو غطاء من غزل عينيك يحنو
فوق أوجاعي التي لا تنام
أرتجت دوني السعادات حتى
لم يعد لي على الشقاء ابتسام
واصفتني الدموع خلا وفياً
ليت شعري أهكذا الأيتام
كم تمنيت أن أعيش حياتي
تحت رجليك إنما الأيام
بلغتني من المور شؤوناً
أسكرتني ، كم تسكر الأوهام
يلهث الابن للسعادة ياأم …
ودرم السعادة الأقدام
قصر الحظ عن بلوغ مرام
دعوة الم في ثناها المرام
يمكث المرء بالتجارب دهراً
وكفاه من أمه الإلهام
كل مجد أتى بدون يديها
محض نقص وإن يقال التمام
************************
أنا يا أم كيف أندب ما بي
من عذاب وتشهد الالام
أن حولي طوافها من سنين
باتئاد ، وزيها الإحرام
أنا يا أم كتلة من خلايا
جمعت بينها الهموم الجسام
************************
كتب النفي ربع قرن علينا
فحجبنا وإستأسد الأقزام
" وإذا ما خلا الجبان بأرض"
ظن وهماً بأنه الضرغام
هتك العرض غيلة وتعشى
بدماء الأطفال جيش لهام
عندما تصبح الجيوش أداة
للطواغيت تعبد الأصنام
************************
شرف الحاكم الجبان دماء
رضعوها من شعبه ووسام
وأنين معباً من ثكالى
ويتامى ، وأمة أغنام
والذي عنده تساق السبايا
من رعاياه ، لا يفيه كلام
مجرم ! ربما ولكن لعمري
بعض أرقى صفاته الإجرام
والغ ّ! ربما وأحلى غذاه
فخذ طفل ولوزتاه إدام
خائن ! ربما .. لا .. لا تسلني
أقدس الحرب عنده إستسلام
ربع قرن حدوده في أمان
إنما ضد شعبه الإقدام
بطل ، سيد ، شجاع ، حصيف
عبقري وقائد …. وهمام
يخنق الأمهات خنق الفراشات….
ويمضي وليزهق اللوام
بين أنيابه نهود العذاري
نازفات وفي يديه حسام
بطل يقتل المساجين في الأسر…
ويمضي وما عليه ملام…
ذاك خصمي ويشهد الله أني
طال في ذلك الجبان الخصام
لم ينم حقي المقدس مهما
قعد الناس دونه أو قاموا
************************
أرضعتني أمي حليب المعالي
وعلى الصبر والثبات الفطام
وقضت نحبها تعد الليالي
وتوالت بعدها الاعوام
كم تمر السنون ، والعين تبكي
مقلة الحب دمعها أكوام
************************
حرق الله قلبه من ببالي
ودهت إبنه الدواهي العرام
كلما أن في المنافي غريب
أو بكت أمه وحنّ الغلام
ربع قرن أشتاق وجهك أمي
ثم تقضين ! هكذا والسلام
كان وعدي غليك أنزلك القبر…
حناناً فاستبعدتني اللئام
حرموني من هجعة القلب والسر…
وهذا والله أمر حرام
سنة الظالمين مذ كان ظلم
إن تولى أمر الرجال الطغام
تفسد الأرض والضمائر والفكر
جميعاً …وتقطع الأرحام
************************
ربع قرن اشتاق وجهك أمي
وعلى الشوق كم يضج الغمام
مطر وابل يداعب وجهي
مثلما داعب الربيع الحمام
أي حب هذا صببت بقلبي
أو هذا الذي يسمى الغرام
ياسمين ، قرنفل ، أم ورود
أم رحيق معتق أم مدام
وجهك الطاهر النبيل أمامي
وعليه الإجلال والإعظام
كم على الغربة الشقية صليت…
صباحاً وأنت في الإمام
يا غطاء الصلاة يا ثوب أمي
ليت أني غطاؤها واللثام
ياحنان النسيم في ليل أمي
ليت أني بليلها الأنسام
كم على سطح بيتنا من ليال
سكر الشعر عندها والكلام
قمر ساهر يبوح الحكايا
فم أمي فتعذب الأنغام
كرمة تسهر النجوم لديها
والعناقيد قلبها مستهام
وأنا … قابع أعب حناناً
وجمالاً ودمع أمي سجام
ربما أدركت بفطرة ربي
أن هذا الزمان عام … وعام
هكذا الدهر بين كر وفر
مستحيل على الهناء الدوام
ينقض الأمر فجأة في ثوان
بعد أن أحكم الإبرام
************************
كل شعري إليك يا مهجة الدنيا…
مقفىً وكله إحكام
كل حرف كتبته وهج عينيك…
عليه ، وتشهد الأقلام
كل عد حسبته فوق كفي
هو أنت ، وتذكر الأرقام
كل طب مارسته ، كان علمي
يتنحى ، وعلمك المقدام
كل فكر في خاطري عبقري
نظم عينيك والعيون نظام
أشهد الله والملائك خيري
كله منك أخمصي والهام
************************
ياحماة الحمى عليك سلام
وسقى وجهك الحزين ، السلام
كيف حال النواعير يا وجه أمي
كيف أضحت شقائق وخزام
كيف حال الجنان والنهر يسقيها
زلالاً فتفتح الأكمام
كيف تل من الرياحين ينمو
خلف أسوارنا فيجلي الزكام
كيف سرب من العصافير يشدو
عند شباكنا وكيف اليمام
كيف أقواس مسجد "الجديد"
أتقرا آل عمران أم هي الأنعام
كيف "باب" زرعت فيه شجوني
حجار تحبني … ورخام
ونقوش فوق المصلى وحرف
شع تبراً ، فأبدع الرسام
كيف " سوف الطويل" والناس عجلي
وعلى العيد ضجة وزحام
" والشمندور " و "القطايف " و "الجبن"
و "صحن البيريت" والعوام
فتة اللحم يا أصابع أمي
طاب منها خروفها … والنعام
كيف سوق النحاس والبدو والخيل …
وسوق الخميس والحمام
وزقاق أبحته كل سري
ذات ليل فأشرق الإظلام
" وأبو الليث " كيف حال أبي الليث …
وكيف الرايات والأعلام
درج العز والشموخ أماناً
حيث حاراتنا … وحيث السنام
كم صعدنا عليك نعدو ونغدو
نحو بيت بناه قوم كرام
وإلى "القصر" لا يزال حنيني
حيث كان الرجال صلوا وصاموا
وإلى "القاعة" العريقة بالمجد…
وسقف (البدود) ، كلي هيام
قهوة زفت الزمان إلينا
عربياً فأنشد … الأقوام
" ما أحيلا لما وصلنا سحيراً "
مالهجر بعائد … إيلام
لم يزل طعمها بعمق لساني
يستبيح الضنا ويشفي السقام
يا زمان "المنزول" والجمر عذب
والحديث الذي عليه إضطرام
يازمان الرجال والأمر حزم
ومع الحزم ينتفي الإحجام
بلد يصنع الرجال وربي
ذاك فن ، وسره الإسلام
ما حنت رأسها حماة ولكن
زيجة المجد … مهرها هدام
************************
هكذا أمي الأبية ربتني ….
لها في العروق حق لزام
فلك العز يا حماة وكأس
في المعالي … وكلهم خدام
ولنا الصبر يا حبيبة قلبي
وعليه … تستأصل الأورام
أحماة أمي ! وأمي حماة !
شهدت مصر في هواي وشام
************************
إسمحي لي أمي فقد أزف الوقت….
وعذراً إن لم يوف المقام
وعليك من الإله التحيات
دواماً ومني إليك إحترام
وإذا قيل يا حماة وداعاً
بدموعي أحبت بل ياختام
************************