ازدهار العلوم الدينية في الدولة الأموية
: عمر بن سليمان العقيلي 01:00-2017/06/15
ملخص المقال
ازدهار العلوم الدينية في الدولة الأموية، حول تاريخ علوم القراءات والتفسير والحديث وأشهر علمائها ومؤلفاتهم، فما مظاهر ذلك الازدهار؟
أدى انتشار التعليم ونشوء مراكز العلم في المدن الرئيسة مثل مكة والمدينة ودمشق والبصرة والكوفة والفسطاط والقيروان إلى ازدهار الحركة الفكرية في العصر الأموي، وقد ساهم الخلفاء الأمويون وولاتهم على الأقاليم، بدور فعال في دفع هذه الحركة إلى الأمام، بطريق مباشر أو غير مباشر، وفيما يلي عرضًا موجزًا لهذه النشاطات الفكرية المتعددة خاصة في العلوم الدينية.
العلوم الدينية
هي تلك العلوم التي تعتمد أساسًا على القرآن، وقد عُرفت الدراسات المتفرعة عنها بعلم القراءات وعلم التفسير وعلم الحديث، وقد انتشرت هذه العلوم كليًا أو جزئيًا في معظم أقاليم الدولة الأموية، وكان لارتحال العلماء والفقهاء من قطر إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى وارتحال الطلاب إليهم سبب مباشر في ارتقاء هذه العلوم.
أولًا: علم القراءات
توفي الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 11هـ / 632م ولم يكن القرآن قد جمع في مصحف واحد، وإنما كان محفوظًا في صدور الرجال (حفظة القرآن)، ومكتوبًا من قبل كُتّاب الوحي على اللخاف (الحجارة البيض الرقاق) والرِّقاع (من الأَديم أي الجلود) والأَكتاف (عظام الأَكتاف من الإبل وغيرها) والأَقتاب (جمع قتب وهو الخَشَب الذي يوضع على ظهر البعير ليُركب عليه) والعُسُب (جمع عَسيب وهو جريد النخل).
جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق
وكان مفرَّق الآيات والسور أو مرتب الآيات فقط، وكل سورة في صحيفة أو صحف على حده، ولم يُجمع في مصحف واحد (بين اللوحين أو على شكل كتاب) إلا في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه بمشورة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي خشي على القرآن بعد مقتل العديد من الصحابة في قتال أهل الردة يوم اليمامة (في نواحي بلدة الجبيلة، قرب الرياض) سنة 13هـ / 634م، فكلَّف أبو بكر زيد بن ثابت الأنصاري للقيام بهذه المهمة، فجمع زيد القرآن في صحائف من الجلد (الرق أو الرقاع)، مرتِّبًا لآيات سوره على ما وقَفَهم عليه النبي صلى الله عليه وسلم. وظلت هذه الصحائف محفوظة عند أبي بكر رضي الله عنه ثم آلت إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحفظها عند ابنته أم المؤمنين حفصة (رضي الله عنها)، (ت 45هـ / 665م)، طيلة مدة خلافته (13 - 23هـ / 634 - 643م).
جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان
وفي فترة خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه (23 - 35هـ / 643 - 655م) توسع المسلمون في فتوحاتهم، وتفرق القرّاء في الأمصار، وأخذ أهل كل مصر عمن وفد إليهم قراءته فأكبر الصحابة هذا الأمر مخافة أن ينجم عنه التحريف والتبديل وأجمعوا أمرهم أن ينسخوا الصحف الأولى التي كانت عند أبي بكر، ويجمعوا الناس عليها بالقراءات الثابتة على حرف واحد.
فأرسل عثمان بن عفان إلى حفصة، فأرسلت إليه بتلك الصحف، ثم أرسل إلى زيد ابن ثابت الأنصاري، وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي (القرشيون) فأمرهم أن ينسخوها في المصاحف وأن يُكتب ما اختلف فيه زيد مع رهط القرشيين الثلاثة بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم، ففعلوا.
حتى إذا نسخوا تلك الصحف في مصحف واحد (سنة 25هـ / 645م) ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أُفق (مِصْر)، بمصحف مما نسخوا، واحتفظ بنسخة منه عنده بالمدينة، وأمر الناس أن يقرأوا على نسخة واحدة، وقال محمد بن جرير الطبري فيما فعله عثمان: "وجَمَعهم على مصحف واحد، وحرف واحد، وخَرَق (مزَّق) ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه"، "وبهذا قطع عثمان دابر الفتنة، وحسم مادة الخلاف، وحصَّن القرآن من أن يتطرق إليه شيء من الزيادة والتحريف على مر العصور وتعاقب الأزمان".
ويشير أحد الباحثين إلى أهمية هذا العمل، بقوله: "وبذلك العمل الكبير والمهم في تاريخ القرآن، أخذ المصحف شكله الموحد في الرسم والترتيب، وصار كل مصحف أرسله الخليفة من المدينة إمامًا يقتدي به أهل البلدة التي أرسل إليها ومن حولها، وصارت تلك المصاحف تعرف بالمصاحف العثمانية، نسبة إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه، لأنه هو الذي أمر بنسخها وإرسالها إلى البلدان، خارج الجزيرة العربية، وصار رسم الكلمات فيها يعرف بالرسم العثماني، وتلك المصاحف هي أصل لكل المصاحف الموجودة اليوم".
تطور علوم القراءات في العصر الأموي
لقد كُتب مصحف عثمان، في معظمه، دون نَقْط ولا شَكل، وكانت بعض الكلمات تَسمح بقراءات متعددة، وربما لم يجد العرب صعوبة في القراءة، ولكن المشكلة ظهرت عندما بدأ التباين في قراءات أبناء الشعوب المفتوحة كالفرس والهنود والبربر وغيرهم، فتنبه خلفاء بني أمية وولاتهم إلى هذا الأمر، وقام أبو الأسود الدؤلي (ت 69هـ / 688م) بتكليف من زياد بن أبي سفيان (والي العراق لمعاوية)، بوضع أول علامات تدل على الحركات (الفتحة والضمة والكسرة) والتنوين، فكان هذا بداية للمدرسة النحوية في اللغة، وأَتم نصر بن عاصم الليثي (ت 89هـ / 707م) عمل أستاذه من بعده وذلك بأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي، والي العراق حينذاك، فوضع النقط، أفرادًا وأزواجا والمخالفة بين أماكنها، مما سهل التفريق بين الحروف (الباء، التاء، الياء .. وما يماثلها).
هذا، وقد أفرزت هذه الاختلافات في القراءات إلى البدء في تصنيف القُرَّاء، فكان أن أتّفق على مشاهير القُرَّاء السبعة، الذين عاشوا كلهم، ومات بعضهم في العصر الأموي، وهم:
عبد الله بن عامر الدمشقي اليَحْصُبي (ت 118هـ / 736م) في دمشق، وعبد الله بن كثير الداري (ت 120هـ / 738م) في مكة، وعاصم بن بَهْدَلَة (أبي النَّجود) الأسدي الكوفي (ت 127هـ / 745م)، وأبو عمرو زيان بن العلاء التميمي المازني البصري (ت 145هـ / 770م)، وحمزة بن حبيب بن عمارة الزيات التميمي الكوفي (ت 156هـ / 773م)، ونافع بن عبد الرحمن ابن أبي نعيم الليثي (169هـ / 785م) في المدينة، وعلي بن حمزة الأَسدي (مولاهم) الكسائي (ت 189هـ / 804م) في الكوفة.
ثانيًا: علم التفسير
علم التفسير هو علم يقوم أساسًا على تفسير القرآن الكريم وشرح معانيه واستخراج أحكامه وحكمه، وتقريبه إلى الناس، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أول مفسّر له، يروى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "كان الرَّجل منَّا إذا تعلَّم من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن، قال: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا"، ثم تولى صحابته ذلك الأمر من بعده، فكان عبد الله بن عباس أول المفسرين (ورائد الدراسات اللغوية، إذ كان يشرح الكلمات الصعبة في القرآن بشواهد من الشِّعر) وكان تفسير ابن عباس موضع تقدير من الإمام أحمد بن حنبل، فقال: "إن بمصر صحيفة في تفسير (ابن عباس) رواها (أحد تلاميذه وهو) علي بن أبي طلحة (الهاشمي) (ت 120هـ / 737م) لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا".
وأخذ العلم عن ابن عباس كثيرون، لعل من أشهرهم: سعيد بن جبير الأسدي (ت 95هـ / 713م) وله كتاب في التفسير، ويقال أنه كتبه بناء على طلب من الخليفة عبد الملك بن مروان والذي بدوره حفظ نسخة من هذا التفسير عنده بديوان الخلافة، وهناك مجاهد بن جبر المكي (ت 104هـ / 722م) والضحاك بن مزاحم الهلالي (ت 105هـ / 723م) وعطاء بن أبي رباح القرشي (ت 114هـ / 732م) وقَتَادة بن دعامة السدوسي (ت 118هـ / 736م)، ومن الجدير ذكره أن كل واحد من أولئك قد كتب كتابًا في تفسير القرآن، فاستفاد منها من جاء بعدهم.
ثالثًا: علم الحديث
وعلم الحديث يقصد به كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير -بمعنى استحسانه شيئًا، وهو ما اصطلح على تسميته أيضًا بالسُّنَّة (وهي المصدر الثاني للتشريع الإسلامي).
كان حفظ الأحاديث النبوية في الصدور إحدى الطرق لتعلّمها ولحفظها من الضياع، وإلى جانب ذلك، فقد كان هناك بعض الصحابة ممن كانوا يكتبون هذه الأحاديث، فقد ورد أن عبد الله بن عمرو بن العاص كتب عن النبي صلى الله عليه وسلم علمًا كثيرًا مما حدا بأبي هريرة الدوسي أن يعترف بريادته في ذلك، فقال: "لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثًا منّي إلاّ عبد الله بن عمرو بن العاص فإنه كتَب ولم أكتُب".
كان عبد الله بن عمرو بن العاص يحفظ ما يكتب من أحاديث في صحيفة أسماها (الصادقة)، ويقول عنها: "فيها ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه فيها أحد".
وكانت هناك صحائف أخرى كتبها: عبد الله بن عباس وسَمُرَة بن جندب الفزاري (ت 60هـ / 680م) وأبو سَلمة نَبيط بن شريط الأشجعي، وجابر بن عبد الله الخزرجي الأنصاري (ت 78هـ / 697م)، وسار على نهجهم في ذلك بعض التابعين من أمثال سعيد بن جبير وبشير بن نَهِيك السدوسي البصري وعامر الشعبي وعطاء بن أبي رباح، وتجدر الإشارة إلى أن ما كان يقوم به هؤلاء الصحابة والتابعون من تقييدهم للعلم إنما كان نابعًا من رغبة شخصية ولا علاقة للجهات الرسمية بذلك.
ومما يؤكد وجود تدوين للحديث في عهد الصحابة، أن بعض أبنائهم ممن عرف برواية الأخبار، يشير إلى مصدره أو مصادره التي استقى منها معلوماته، بقوله: "وجَدت في كُتب أبي" أو "وجَدت في كتاب آبائي".
جمع الحديث النبوي في عهد عمر بن عبد العزيز
أما أول عملية جمع للحديث النبوي الشريف وتدوينه، بشمول واستقصاء، فقد تمت في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز (99 - 101هـ / 717 - 719م) وبأمر وبإشراف مباشر منه (كجهة حكومية رسمية)، فيروى أنه كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري (ت 120هـ / 737م)، واليه على المدينة: "أن أُنظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سُنَّة ماضية، فاكتبه، فإني قد خِفْت دروس العلم وذهاب أَهله"، فقام الوالي بهذا العمل، وشاركه فيه كل من القاسم بن محمد ابن أبي بكر (ت 107هـ / 725م) وابن شهاب الزهري (ت 124هـ / 741م) وذلك لسعة علمهما وإطلاعهما.
وبعث عمر بن عبد العزيز إلى علماء الأمصار الإسلامية يقول: "أُنظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه".
ولا شك أن الخطوة التي أقدم عليها عمر بن عبد العزيز تستحق التقدير، فقد كانت هذه الخطوة تمثل جهود المؤسسة الرسمية الحاكمة في ذلك الوقت، وهي الخلافة الأُموية، فهي التي رعت المشروع ومولته وحرصت على إنجازه حتى صار حقيقة واقعة.
ويقول الزُّهْري في هذا الصدد: "أَمرَنا عمر بن عبد العزيز بجمع السُّنَن، فكتبناها دفترًا دفترًا، فبعث إلى كل أَرض له عليها سلطان دفترًا من دفاتره"، فأقبل طلاب العلم يتدارسون هذه الكتب، مما كان له أثر واضح في إثراء الحركة الفكرية، فقد "فتح هذا العمل الطريق أمام العلماء الذين أثمرت جهودهم في خدمة السُّنَّة النبوية عن ظهور مصطلح الحديث الذي كان لدقة منهجه وسلامة قواعده أن اتخذه العلماء منهجًا في التاريخ والفقه والتفسير واللغة والأدب وغيرها، وظهور علم الجرح والتعديل وعلوم الحديث الأخرى، وتصنيف المؤلفات في الأحاديث الموضوعة، وفي الوضّاعين الكذابين، وفي الأحاديث المشتهرة وذلك لتنقية السنة النبوية مما تعرضت له وحمايتها من كل زيف".
موقع قصة الاسلام