قراءة ثريا نبوي في قصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" للشاعر أمل دُنقُل
نُشِرت القراءة على هذه الروابط:
facebook.com/mohammadabbas47
الدكتور محمد عباس (@drmohamadabbas) | Twitter
drmohamedabbas.blogspot.com
:
مُنذُ العنوان الذي هو عتبةُ النَّصِّ الأولى، تقمص الشاعر شخص سبارتاكوس، ليقول كلماتِه الأخيرة، مُحرضًا على الثورة على العبودية، مُستنفرًا: بكل مشاعره وأدواته وعقيدة الرفض التي احتلتْ وِجدانَه وجرَتْ زُلالًا في كل شرايين دواوينِه، حتى لُقِّبَ بــ"أمير شعراء الرفض"
وها هو تحت هذا العنوان يُمجّدُ الشيطان الذي قال لا، وإن صدمَنا بهذا المدخل الذي بدأت به متاهةُ البحث عن الفِكرة، تلك التي تشعبت في دروب النَّصّ، وتسلّقتْ شجرةَ الحرية مُضرّجةً بالوطنية، ليقولها هديرًا على لسان مُحرر العبيد، وبكل عبارات الأبجدية: لا تنحنوا- شُنقتُ لأنني لم أنحنِ- يُسعدني حتى بعد الممات أن تقولوها ولو مرّة- انتظرتُ هانيبال لنُحرركم معًا لكنه لم يأتِ- كانت قُرطاجة قويةً قبل أن تعرف الركوع- لن يُصدقكَ التاريخُ أيها القيصرُ حين تدّعي أنني كنت راضيًا بالعُبودية؛ حتى وإن اتخذتَ جمجمتي التي أهديتكَ كأسًا في مجالِسِك- لا تقطعِ الشجر لتصنع المشانق؛ فقد تحتاجُ ثمرَه ذات مجاعة، أو ظلالَه ذاتَ هجير- لم تعُدِ الصخرة مع سيزيف؛ فقد ورِثتموها وورّثتموها أبناءكم مع العذاب الأبديّ بانحنائكم – الانحناءُ مُرّ – ستموتون مَحنيين إن لم ترفُضوا – فلا أملَ في أن يترككم القيصر، وإن رحلَ سيرثكم آخر- الوُدعاءُ هُم ورثةُ جنة الأرض- وفي المُقابل وهو ما لم يُفصِح عنه وتركهُ للرمز القوي: والرافضون هُم ورثةُ جنةِ السماء، وهكذا خرجَ من النص مُوثِّقًا ربط النهاية بالبداية، مُسلطًا على الغايةِ البريق، ليخرجَ القارئُ معه أو يخرجَ العبيد من متاهةِ البحث عن الطريق.
أعودُ لأدندنَ حول هذا التمجيد للشيطان، المُثيرِ للجدلِ والتنقيبِ في آن، فأقول:
تبدأ القصائد عادةً هادئةً، ثم تشتعلُ قُرب النهاية، ولكن هذه القصيدة بدأت بالاشتعال، بقدر ما اشتعلت فِكرةُ التحرير في الأتون، مع جمارِ الانتظار، وبما يُرادُ توصيلُهُ بقوةٍ إلى التابعينَ والمُريدين؛ قولوا لا .. لقد قالها الشيطانُ - مَدفوعًا بفكرةِ "الخَيريّة": "خَلَقْتَني مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين" - وحيدًا في حَضرة الإله، غيرَ عابئٍ بكلِّ الملائكةِ وقد قالوا نعم؛ أتخشَونَ قولها في وَجْه القيصر؟
وَحَريٌّ بي عند هذه النّقطة أن أُلفِتَ انتباهَ القارئ إلى أنّ ثقافةَ الشاعرِ "القُرآنيةَ"؛ قد غلبتْهُ وانبرَتْ للظهور في مفتتح القصيدة، تلك التي تُشكِّلُ في مجموعِها "كلمات سبارتاكوس الأخيرة"!
فليس بعد هذا المِثالِ مِثالٌ، وليس بعد هذا التكثيفِ النافدِ الصبرِ، والإجمال، إلا التفاصيلُ وإلقاءُ الأحمال على رصيفِ الكلمات.
ولعل وصفَ الشيطانِ بمعبود الرياح، يؤكدُ الفِكرةَ والدعوةَ إلى الفِعل الإيجابيّ المأمول؛ فالرياحُ رمزٌ قويٌّ للحركةِ والتغيير، وأن يكون هذا الرافضُ معبودَها؛ فهذا يعني الكثيرَ من التفسير: لاقتلاعِها كلَّ ما يقِفُ في وجهِها مُعترِضًا سَيْرَها، ولديمومةِ حركتِها، وقد آلَتِ الظاهرتانِ مع التعبير-بإضافة هذا إلى ذاكَ/معبود الرياح- إلى طقوسِ عبادةٍ وطاعةٍ وتمجيد.
لقد أهدَتنا إضافةُ (معبود) إلى (الرياح) ضوءًا مُرشِدًا إلى دين روما وقيصرِها وعبيدِها وزعيمِهم الذي تحدث بلسانِه الشاعر؛ فلم يكن هو دينَنا الحنيفَ أو دِين الشاعرِ الذي يستقي منه- فالرياحُ في دِينِنا تعبُد الله وتُسبّحُ بحمده وتأتمِرُ بأمرِه- بل كانت الوثنيةُ سيدةَ الموقف في ذلك التاريخ الذي هو سبعينيّاتُ ما قبلَ الميلاد، وكذلك فعلَ غيابُ لفظة (الشهيد) عن النصِّ كلِّه، لتحلّ محلها (الثائر) وهو مزيدٌ من التأكيد.
لم تكُنْ هذه هي المرةَ الوحيدةَ التي تمرَّدَ فيها الشاعرُ أو عُدَّ مُتمرِّدًا؛ فقصيدتُهُ "الخُيول" كانت ميدًانًا آخرَ للتهكُّمِ على المآلات بعد المجدِ والفتوحاتِ التي شهِدتها هذه الخيول، وأتصوَّرُ أنّ الشعراءَ الذين يُعانونَ من الحنينِ إلى هذا الماضي الوضيءِ بأمجادِهِ وأبطالِهِ، كلَّهم يفعلونَ لأنهم مُنتمون وليس لأنهم جاحِدون، يُشارُ إليهم بأصابعِ الاتهام.
وكذلكَ جاءتْ قصيدتُهُ: (مقابلةٌ خاصّةٌ مع ابنِ نوح)، تلكَ التي كان الطوفانُ فيها طوفانَ الفسادِ لا الماء، والسفينةُ فيها وسيلةَ النجاةِ للمفسدينَ والأشرار؛ وليس للأخيارِ المؤمنين باللهِ وبدعوةِ سيدنا نوح عليه السلام .. فاختار دُنقُلُ المُحبُّ لوطنِهِ ألَّا يركبَ معهم؛ ليكون شبيهًا بابنِ نوحٍ فقط في هذه الجُزئيةِ – رفضِ الانصياعِ لدعوةِ النجاة – فهو يريدُ نجاةً من نوعٍ آخر: أن يبقى مع المطحونينَ والمُنافحينَ عن الوطن الذي أحبَّهُ، والأرضِ التي عشِقَها حدَّ الموتِ غرقًا دونَها، وقد أصبح قلبُهُ "وردةً مِنْ عَطَنْ" فهذا هو ما حدثَ له بعدما تقَمَّصَ شخصيةَ ابنِ نوحٍ دونَ مُبالاةٍ باتهامِهِ بالكُفرِ الذي كان في السياقِ: بالطُّغمةِ الفاسدةِ لا بالإله - لِمنْ ألقَى السمعَ وهو شهيد - أليسَ هذا هو اللقاءَ الخاصَّ أو المصيرَ الذي جمعهما والنهايةَ المُتشابهةَ المَحتومةَ لقلبيهما بعد الإصرارِ على الرفض؟ فهل بعد كل هذا الحب الوطنيّ العارِمِ الذي اختارَ (لا) في كل ما يكتُبُ وانتهجَها عقيدةً ومنهجًا، وهو الواثقُ بثمَنِها ومَصيرِ مَن يقولونها؛ هل نتَّهِمُ القلبَ الذي أُتْرِعَ بهذا الحُبّ وبهذه الجَسارةِ في المواجهة، بأنه كان خَلْوًا من الإيمان؟
إذنْ؛ كان توظيفُ التَّمرُّدِ براغماتيًّا حدَّ تمجيدِ الشيطان أو الاستسلامِ للطوفان؛ في سِياقٍ مُغايرٍ أو رؤيةٍ مُغايرةٍ؛ أراها منهجًا مُتميِّزًا في التَّنَاصّ الكُلِّيِّ مع واحدةٍ من قصصِ القُرآن، ذلك أنه يرفِدُ النَّصَّ الشعريَّ كلّهُ أو يستوحيهِ كاملًا منها، دون اكتفاءٍ بجملةٍ أو إشارةٍ كما نفعلُ في التناصِّ الجُزئيّ، حتى وإنْ تبدّلتْ ملامحُ الأفكارِ والتفاصيلِ التي يرسمُها، بعيدًا عن مزاعمَ واتهاماتٍ بِظهورِ أشباحٍ "نِتْشويّةٍ" تتبنّى إحلالَ الإنسانِ بدلَ الإله؛ لمجرد استبدالِ القيمِ الدنيويةِ بالقيمِ الدينية؛ وصولًا إلى إحياءِ أو إشعالِ فكرةِ الرفض لكل ما يُفعَلُ بالأوطان.
ذلك الذي كان دَيْدَنَ حياتِهِ وحُزنَها المُقيمَ؛ وقد تناولهُ في تقديمِ أحد دواوينِهِ قائلًا:
آهِ ... ما أقسى الجِدار
عِندما يَنهَضُ في وَجهِ الشّروق
رُبما نُنْفِقُ كُلَّ العُمرِ كي .. نَنْقُبَ ثَغْرة
لِيَمُرَّ النُّورُ لِلأجيالِ .. مَرّة
رُبما لو لَمْ يَكُنْ هذا الجِدار
ما عَرَفْنا قيمةَ الضَّوءِ الطَّليق
_________________
كلمة أخيرة أُذَيِّلُ بها شهادتي للشاعر
ولعل فيها إبراءً لذمةِ الظَّانينَ بأنهم مُبَرَّؤون وهم مُدانون:
كنتُ بصددِ تقييم قصيدةٍ لي عَنونتُها: "دالياتٌ بالمواجِعِ مُثْقَلاتْ"
وقد حَوَتْ من الأسماءِ والرموز: بائع الأمراء العزّ بن عبدالسلام- السَّهرَوَرديّ – ماكبِث – سيزيف - أبو رِغال – العلقميّ – الحجَّاج – سعيد بن جُبَيْر – الرشيد - عصا موسى – صُندوق بانْدورا – روما – إشارة إلى فتحِ سمرقند
كل هذا الحشد رأيتُ أنه تحت عنوانٍ كهذا؛ حرِيٌّ بأن يكونَ مُبرَّرًا حين يدورُ الحديثُ عن أوجاعِ الأُمّةِ عَبْرَ التاريخ؛ ولكنني فوجئتُ بشاعرٍ ناقدٍ مغربيٍّ حصيفٍ يقولُ ما معناه:
هذا بلا شكَّ ثراءٌ وإثراء، ولكنه يجعلُ القصيدةَ - رغم إيغالِها في البلاغة - نَشرةَ أعلام!
ارجِعِي إلى قصيدة أمل دُنقُل: "مقابلة خاصة مع ابنِ نوح"؛ لِتَقِفي على كيفَ يكونُ تكثيفُ التَّناصّ عبرَ النصّ بالكامل، فقرأتُ وعرفتُ أنه كان مَدرسةً، وأنَّ له منهجًا يُحتَذَى
بعدما عرفتُ أن الدنيا قامتْ فلم تقعُد، عندما قال في رائعتِهِ "لا تُصالِح":
أتُرى حين أفقَأُ عينيكَ
ثم أثبِّتُ جَوهرتينِ مكانهما
هل ترى؟
هي أشياءُ لا تُشْتَرى!
فإلى القصيدة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة"
[وقد كُتِبَتْ بتفعيلاتِ الرَّجَز:
مُسْتَفعِلُن/ مُتَفْعِلُنْ/ مُتْفَعِلُنْ؛ إلّا قليلًا أرجو أنه نتجَ عن أخطاءِ التداول]
المجد للشيطان معبود الرياح
مَن قال "لا" في وَجْه مَن قالوا "نعمْ"
[المجدُ لمن يقول لا حتى لو كان وحدَه، من يقولُها في وجه كل من قالوا نعم ..
الاعتراض هنا على القُدوةِ المَسوقة كاستهلال، وإن كانت الدهشةُ أو الصدمة قد انبجستْ من توظيف الشيطان ومنحِه المجدَ في المُفتَتح .. وفي هذا تتجلى مقدرةُ الشاعر على إبقاء المُتلقّي على قيدِ البحث عن المقاصد، وسَبْرِ أغوارِ القصيد.]
مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ
وقال "لا" فلم يمتْ وظلَّ روحًا أبديةَ الألمْ
***
مُعَلَّقٌ أنا على مشانقِ الصَّباحْ
[وكُلما قرأتُ هذا السطرَ الدَّامي، اسَّاقطَ الدمعُ في قلبي، مع رَهَفِ الشكوى "مُعلَّقٌ أنا" ومع باقي الرموزِ المرسومةِ في اللوحة: حيث يُشنَقُ الصباحُ كلما أُريد، فلم تكنِ الكلمةُ بصيغةِ الجمعِ (مشانق) إلا تعبيرًا قويًّا عن تِكرارِ المُحاولة، وتِكرارِ طمسِ الضياءِ المُعادلِ للحرية.]
وجبهتي – بالموتِ – مَحنيَّةْ
لأنني لم أَحْنِها ... حَيَّةْ!
[يستمرُّ مُقدِّمًا القُدوة على لسان القائد: بقيتُ رافضًا حتى الموتِ الذي كان ثمنًا لرفض الانحناء .. وما أبلغَ أن يُحدثنا مُعلَّقٌ على مشانق الصباح! عن الثمن الباهظ للحرية]
***
يا إخوتي الذينَ يعبُرون في الميدان مُطرِقينْ
مُنحدرين في نهايةِ المساءْ
في شارِع الإسكندرِ الأكبرْ
لا تخجلوا ... ولترْفعوا عيونَكم إليّْ
لأنكم مُعلَّقونَ جانبي ... على مشانِق القيصَرْ
[..نِق القيصَرْ/ مَفَاعِيلُنْ .. خروج عن تفعيلات الرجَز إلى تفعيلة الهَزَج]
فلترفعوا عيونَكم إليّْ
لربما ... إذا التقتْ عيونُكم بالموتِ في عَينَيّْ
يبتسمُ الفناءُ داخلي ... لأنكمْ رفعتُم رأسَكمْ ... مرَّة
[رأسَكمْ مرّة: /0//0 /0/0 لا تُقرأ إلا: فاعِلُنْ فَعْلُنْ؛ خروجٌ إلى تفعيلاتِ المُحدَثِ أو المُتَدَارَك]
[تحريضٌ على الرفض مُوغِلٌ في الشاعريةِ والتشبثِ بالأمل، تناولَهُ في تقديمِ أحد دواوينِهِ قائلًا:
آهِ ... ما أقسى الجِدار
عِندما يَنهَضُ في وَجهِ الشّروق
رُبما نُنْفِقُ كُلَّ العُمرِ كي .. نَنْقُبَ ثَغْرة
لِيَمُرَّ النُّورُ لِلأجيالِ .. مَرّة
؛؛؛؛؛؛؛
رُبما لو لَمْ يَكُنْ هذا الجِدار ..
ما عَرَفْنا قيمةَ الضَّوءِ الطَّليق!!]
أَمَل دُنْقُل
[[[عودةً إلى النَّصّ الأصليّ]]]
سيزيفُ لم تعدْ على أَكتافِهِ الصَّخرةْ
يحملُها الذين يُولدونَ في مخادِع الرقيقْ
[حملتمُ الصخر بدلا من سيزيف أيها العبيد أبناء العبيد - ولا يولدُ في مخادع الرقيق إلا الرقيق! - فصار العذابُ إرثَكم الأبديَّ بالانحناء والخنوع]
والبحرُ – كالصَّحراءِ – لا يروي العطَشْ
لأنَّ مَن يقولُ "لا" لا يرتوي إلا مَن الدُّموعْ
[يُريدُ غضبةً كبرى، ثورةً عارمةً لا تُبقي ولا تَذر، ثورةً لكل العبيد، يجتمعُون عليها، لأن من يقول لا وحيدًا؛ لن يرتوي إلا من الدموع؛ فوحِّدوا الصفوف / بينما ظاهر القول: لا تثوروا !!!
ولعل هذا السطر يُعضِّدُ الآتي في الفقرة الخلافيةِ: لا تحلَموا .. ..]
... فلترفعوا عيونَكم للثائرِ المشنوقْ
فسوف تنتهونَ مثلَه ... غدًا
[تأكيدٌ على سوء المصير لمن يرتضون العبودية للقيصر، أو بقاءَ المُحتلّ، أو يضعُفون عن المُقاومة، ويؤمنون باستحالتها]
وقبِّلوا زوجاتِكم – هنا – على قارعةِ الطريقْ
فسوف تنتهون هاهنا ... غدًا
فالانحناءُ مُرٌّ
[وهذا هو لُبُّ القصيد، لا تنحنوا ..]
[غير أن شاعر الرفض، يقولها تصريحًا وتلميحًا بامتدادِ نزفِهِ الشعريّ]
والعنكبوتُ فوق أعناقِ الرِّجالِ ينسِجُ الرَّدى
فقبِّلوا زوجاتِكم ... إنِّي تركتُ زوجتي بلا وداعْ
[تأكيدٌ على حتمية موتِ الخانعين]
وإن رأيتمُ طفليَ الذي تركتُهُ على ذراعِها بلا ذراعْ
فعلِّموهُ الانحناءْ
[سُخريةٌ لاذعةٌ بطعمِ الحثِّ على بقاء الحال وكراهية النضال]
علِّموهُ الانحناءْ
... ... ...
اللهُ ... لم يغفرْ خطيئةَ الشيطانِ حين قال "لا"
[خرج الوزنُ في السطر السابق إلى الهَزَج عند(..ئةِ الشيطا/ مَفَاعِيلُنْ)]
والودعاءُ الطيبونْ
هم الذين يَرِثُونَ الأرضَ في نهايةِ المدى
[همُ الذي(..نَ يَرِثُ)أربعُ حركاتٍ مُتتالية أخلَّت بموسيقى التفعيلات؛
فقد صارت: مُتَفْعِلُن(رَجَز)/نَ زائدة/فَعِلاتُنْ(رمل)/ مُتَفعِلُنْ(رجز)/ فعو]
لأنهم ... لا يُشنَقونْ
فعلِّموهُ الانحناءْ
[لا تتوقعوا أن يغفرَ الأسيادُ للعبيدِ رفضَهم الانحناء؛ فالله سُبحانه - وتعالى عن التشبيه - لم يغفر عصيان الشيطان، ومن يطمع في جنة الأرض الزائفة، فلن يُشنق، لأنه سيبقى على قيدِ الوداعة والرضا، فعلموا ابنيَ الانحناء؛ حتى لا يُشنقَ مثل أبيه الذي انحنت رقبتُهُ مَيْتًا لأنه لم ينحنِ حيًّا.]
[وفي هذا إمعانٌ في الحضّ الساخر على الرفض]
... ... ...
وليس ثَمَّ من مَفَرّ
[[وعندما يكون لا مفرّ أمامكم من الانحناء فَانتظروا العواقب:]]
لا تحلموا بعالَمٍ سعيدْ
فخلْفَ كلِّ قيصرٍ يموتُ: قيصرٌ جديدْ
وخلْفَ كلِّ ثائرٍ يموتُ: أحزانٌ بلا جدوى
ودمعةٌ سُدى
[توحَّدوا ولا تكونوا وُدعاء، وقولوا (لا) للعبودية، وإلا فسوف يسلمكم قيصرٌ إلى آخر، في سلسلةٍ لا تنتهي، وتذهب تضحياتُكم –فُرادَى- سُدًى]
[ذلك أنه في كل مرة يتحدث عن العاقبة يقولُ (كل ثائرٍ) بصيغة المُفرد]
***
يا قيصرُ العظيم: قد أخطأتُ ... إني أعترِفْ
دعني – على مِشنقتي – ألْثُمْ يَدَكْ
[سلامةُ التفعيلاتِ في هذا السطر تنبني على جَزم جواب الطلب(ألثُمْ) وليس كلُّ جوابِ طلبٍ واجبَ الجَزم شأنَ جوابِ الشرط، وينسحِبُ القولُ على سطرٍ تالٍ: دعني (أُكفِّرْ) عن خطيئتي]
ها أنا ذا أقبِّل الحبلَ الذي (في) عُنقي يلتفُّ
[ربما كان خطأ نقلٍ؛ والأصوب (حَوْلَ) بدلًا من (في) غير أن التصويبَ يخذِلُ الوزن]
فهْوَ يداكَ، وهو مجدُك الذي يُجِبرُنا أن نعبُدَكْ
دعني أُكَفِّرْ عنْ خطيئتي
أمنحْكَ – بعد ميتتي – جُمْجُمَتي
تصوغُ منها لكَ كأسًا لشرابِك القويِّ
... فإن فعلتَ ما أريدْ
إنْ يسألوكَ مرةً عن دَمِيَ الشهيدْ
وهل تُرى منحتَني "الوجودَ" كي تسْلُبَني "الوجودْ"
[وجودانِ أحدهما: الحياة والآخر الحرية، وسَلبُها أو فقدُها هو الموت:
في سؤالٍ استنكاريٍّ يطرحُ فلسفة الرفضِ بصيغةٍ أُخرى، من خلال مواجهة سبارتاكوس للقيصر، وادّعاءٍ بإعطائهِ صكّ غُفرانٍ لقتلِهِ وهو ادّعاءٌ ساخرٌ؛ إذْ ينطوي على تناقُضٍ؛ فِلمَ شنقهُ القيصرُ وقد كان راضيًا بالعبودية/ مات غيرَ حاقدٍ عليّ؟]
فقلْ لهم: قد ماتَ ... غيرَ حاقدٍ عليَّ
وهذه الكأسُ – التي كانتْ عظامُها جمجمتَه
[..مُها جُمْجُمَتَه: خروجٌ لا يُقرأُ إلا: فَعولُن/ فَعِلُنْ //0/0///0]
وثيقةُ الغُفرانِ لي
يا قاتلي: إني صفحتُ عنكْ
في اللَّحظةِ التي استرحتَ بعدَها منِّي
استرحتُ منكْ
لكنني ... أوصيكَ – إنْ تشأْ شنقَ الجميع
[ تَشَأْ شَنْقَ الْ/ مَفاعِيْلُن ... خروج عن الرجز إلى الهزج ]
[هنا يتنبأُ أو يحلَمُ بانخراطِ كل العبيد في الثورة (شنق الجميع) فينتقل إلى صيغةٍ أُخرى لإثناءِ القيصر عن ظلمه واستعباده، بمخاطبة فِكرهِ النرجسيّ الأنانيّ: لا تقطع الشجر لتصنع أعواد المشانق، فربما تحتاجُ ظلالَه ذات هجير، أو ثمرَه ذات مجاعة.]
أن ترحمَ الشجرْ
[ لقد يئسَ من رحمة القيصر للعبيد، فانتقل إلى استعطافٍ غيرِ مُباشرٍ، أن "يرحم" الشجر]
لا تقطعِ الجُذوعَ كي تنصبَها مشانقا
لا تقطعِ الجُذوعْ
فربما يأتي الرَّبيعْ
"والعامُ عامُ جوعْ"
فلنْ تشمَّ في الفرُوعِ ... نكهةَ الثَّمرْ
وربما يمرُّ في بلادِنا الصَّيفُ الخَطِرْ
فتقطع الصحراءَ ... باحثًا عن الظِّلالْ
فلا ترى سوى الهجيرِ والرِّمالِ والهجيرِ والرمالْ
[التكرار هنا مُحاولةٌ أُخرى لإيقاظ وعي القيصر، وتبصيرِهِ بمغبّةِ قطع أعناقِ الثوار]
والظمأِ الناريِّ في الضُّلوعْ
[وما أبلغ هذا الظمأَ الناريّ؛ إنه اشتعال الظمأ بعد فقد الظلال!]
يا سيدَ الشواهدِ البيضاء في الدُّجَى!!!
[طباقُ ألوانٍ رااائعُ الإشارةِ إلى كثرة الاغتيالات ... والشعرُ الطباقُ أيها الفارس]
يا قيصرَ الصَّقيعْ
[ كنايةٌ بليغةٌ عن الجُمود الذي يتربّعُ القيصرُ على قمّتِه، حاكِمًا مُقيِّدًا السعيَ نحو التغيير.]
***
يا إخوتي الذينَ يَعْبُرونَ في الميدانِ في انحِناءْ
منحدرينَ في نهايةِ المساءْ
[فإن بقيتُمُ على قيدِ الخنوع حتى تنتهي أعمارُكم ، فـَــــ:]
لا تحلموا بعالَمٍ سَعيدْ
فخلْفَ كلِّ قيصرٍ يموتُ: قيصرٌ جديدْ
[وسوف يكون تغيير الحال من المُحال، فسارِعوا إلى النضال]
وإن رأيتمْ في الطَّريق هانيبالْ
[..قِ هانيبال/ مَفاعِيلُنْ: تفعيلةٌ هزجية مُخالِفة]
فأخبروه أنني انتظرتُه مدًى على أبوابِ روما المُجهدةْ
[لكي أصُدّ البغيَ والعربَدة والظلم الواقع على العبيدِ معه]
وانتظرَتْ شيوخُ روما – تحت قوسِ النَّصر – قاهرَ الأبطالْ
ونسوةُ الرومان بين الزِّينةِ المُعربدةْ
ظَلَلْنَ ينتظِرْن مَقْدِمَ الجنودْ
ذوِي الرؤوسِ الأطلسية المجعَّدةْ
لكنّ هانيبال ما جاءتْ جنودُه المجنَّدةْ
فأخبروه أنني انتظرتُهُ ... انتظرتُهُ
[التكرار كنايةٌ عن طولِ ومرارةِ الانتظار]
لكنهُ لم يأتِ
وأنني انتظرتُهُ ... حتى انتهيتُ في حبالِ الموتِ
وفي المدى: قرطاجةٌ بالنار تَحترقْ
قرطاجةٌ كانتْ ضميرَ الشمسِ: قد تعلَّمتْ معنى الرُّكوع
[رمزٌ آخر لتذكِرة العبيد بسوء المآلات يشرحُهُ تغيّرُ حالِ قُرطاجة، التي كانت حُرّةً أبيّةً ذات حضارةٍ وعدل (ضمير الشمس) وبعد ما قبلَت الركوع/ الانحناء .. يراها سبارتاكوس على البُعدِ تحترق .. هو اندماجُ الشاعر بالتاريخ، والتَّناصُّ معه كلونٍ من ألوانِ البلاغةِ يلمعُ في الحادثاتِ التي يبرعُ في استدعائِها أو استعادتِها وتوظيفِها داخل نصوصِهِ وكأنها جزءٌ حِواريٌّ منها لِإحياءِ فكرتِه؛ وقصيدتُهُ حوارٌ مع ابنِ نوحٍ مِثالٌ راقٍ!]
والعنكبوتُ فوق أعناقِ الرجال
والكلماتُ تَختنقْ
يا إخوتي: قرطاجةُ العذراءُ تحترقْ
[وفي النداء بالأُخوَّةِ استقطابٌ واستمالةٌ للقلوب بتكسير المسافةِ بين القائد والتابعين، فهو أرجَى لتلبيةِ النداء، والانتباه إلى العِظةِ أو الدرسِ المُستفادِ من نهاياتِ الدول العظيمةِ وهزيمةِ القُوّادِ الأبطال، أمثال هانيبال، عندما يُقوِّضُها غيابُ العدل، مع الرضا بغيابِهِ والانحناء للطواغيت]
فقبِّلوا زوجاتِكم
إني تركتُ زوجتي بلا وَداعْ
وإن رأيتمُ طفلي الذي تركتُه على ذراعها ... بلا ذِراعْ
[بلا ذِراع: بِلا سَنَد؛ فقد تمّ إعدامُ أبيه زعيمِ العبيد]
فعلِّموهُ الِانحناءْ
علِّموهُ الانحناءْ
[يقولُ النُّقاد إنّ هذا التكرار ينطوي على شيءٍ من "المِنبَرية" فلا يليقُ بالكتابة، وإنما بالإلقاءِ في حَضرةِ الجمهور]
:
لعلّي وُفِّقتُ في عَرضِ بعضِ ما للشاعرِ وما عليهِ: تأويلًا وعَروضًا ولفتاتٍ نحويةً أو بلاغيةً، في حدودِ إمكانياتي المتواضعة، وأرجو أنني لم أبتعِد كثيرًا عن المقاصِد
كما أتقبلُ الرأيَ الآخرَ بكل ترحيب .. فمعًا نستفيد .. حيّاكمُ اللهُ وبيّاكمْ.
30/12/2019