تطور أشكال الشعر العربي
د. زهور بن السيد
عرف الشعر العربي خلال مساره التاريخي الطويل ثورة في الأشكال الشعرية, نتيجة لعوامل مختلفة: موضوعية (مرتبطة بالتاريخ والحياة والتحولات الاجتماعية التي عرفها المجتمع العربي..) وعوامل ثقافية (مختلف الروافد الثقافية والمعارف الإنسانية) وأخرى ذاتية تتمثل في أن الشاعر العربي الحديث أراد أن يكون له شكله الخاص به. ولا يتسع المجال لتفصيل الحديث حول هذه العوامل ودورها القوي في تحول الشعر وتجديده.
الناقد المغربي الدكتور أحمد المعداوي المجاطي, في دراسته لظاهرة الشعر الحديث, كان دقيقا في تركيزه على شرطين أساسيين من مجمل شروط تحول الشعر العربي لتوضيح التطور الذي لحقه, وهما:
1 ـ شرط الانفتاح على الثقافات الإنسانية
2 ـ شرط الحرية
يقول: "من السهل على الدارس لحركة تطور الشعر العربي عموما, أن يلاحظ أن هذا التطور مرهون بتوفر جملة من الشروط, يهمنا منها شرطان اثنان, أحدهما أن يسبق ذلك التطور باحتكاك فكري مع الثقافات والآداب الأجنبية, والآخر, أن يتوفر للشعراء قدر من الحرية, يتيح لهم أن يعبروا عن تجاربهم"
إذا انطلقنا من هذين الشرطين في متابعتنا وفهمنا لتحول الشعر العربي وتطور أشكاله وتعددها, أمكننا أن نفهم وتيرة هذا التحول وطبيعته. فقد كان التحول تدريجيا وبسيطا عندما توفر الشرطان نسبيا, وقويا حين انفتح الشعراء على مختلف روافد المعرفة والثقافات الإنسانية, وتحقق لهم قدر كبير من الحرية.
لم يكن تجديد الشعر وليد العصر الحديث, بل كانت إرهاصاته منذ القديم . فالشعر حي ينمو ويتطور وينفعل ويتفاعل مع الحياة الإنسانية بكل مجالاتها الاجتماعية والسياسية والثقافية.
لقد عرف الشعر العربي تحولات واضحة على مستوى المضامين بشكل خاص في عصور الشعر الكبرى (العصر الجاهلي والعصر الإسلامي والعصر الأموي والعباسي والأندلسي), وقد أنتجت هذه العصور أشعارا وأغراض شعرية جديدة تعكس التحولات الطارئة على المجتمع العربي, وتواكب نمط الحياة الجديدة في كل عصر وتعبر عنها. إلا أن القاسم المشترك بينها هو وفاء الشعراء لقالب القصيدة العمودية, إذ لم يحيدوا عن قواعدها ولم يكتبوا خارج أوزان الخليل, باستثناء بعض المحاولات التجديدية على مستوى الشكل التي سجلها النقاد والمتتبعون في العصر العباسي على يد أبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري وأبي نواس والبحتري, وفي العصر الأندلسي ممثلة في الموشحات, وذلك حين توفر للشعراء قدر يسير من الشرطين السابقي الذكر.
وفي عصر النهضة, استجدت مجموعة من العوامل القوية, وأتيح للشعراء أن ينفتحوا على الثقافة الأجنبية, وظهرت المدرسة الرومانسية (جماعة الديوان وجماعة أبولو وجماعة المهجر) كرد فعل ضد محاكاة الأقدمين التي رسختها مدرسة البعث والإحياء للنهوض بالشعر وإخراجه من الانحطاط الذي لمسوه فيه أواخر العصر العباسي. لقد أحدث الرومانسيون تجديدا واضحا على مستوى مفهوم الشعر والمضامين والشكل الفني ممثلا في نظام المقاطع وتنويع القوافي والأرواء والمزج بين البحور والصورة واللغة...).
لكن الشعراء الرومانسيون, وإن تمكنوا من وضع لبنات تجديد الشعر على مسوى المضمون والشكل, إلا أنه لم يتسنى لهم أن يحققوا طموحاتهم التجديدية الكبيرة, لأنهم لم يتوفروا على الحرية المطلوبة للثورة على القديم, إذ كان النقد اللغوي لهم بالمرصاد, فتراجعوا عن معظم مشاريعهم التجديدية. يقول الدكتور أحمد المعداوي ـ المجاطي: "كانت نهاية هذه التيارات محزنة, على صعيد المضمون والشكل, (...). وأما الشكل فلأنه فشل في مسيرته نحو الوصول إلى صورة تعبيرية ذات مقومات خاصة, ومميزات مكتملة ناضجة, وكان فشله تحت ضربات النقد المحافظ..."
نكبة فلسطين وهزيمة الجيوش العربية هي أقوى الأحداث التي هزت وزعزعت الكيان العربي, الشيء الذي حمل معه رياح التغيير القوية, لقد أُتيح للشعراء في هذه الظروف الجديدة وما ترتب عن واقع الهزيمة من إحباط وانكسار للذات العربية وانهيار للكيان العربي أن يتحرروا من سلطة الماضي ومتعلقاته و"أن يمارسوا قدرا من الحرية لم تكن ممارسته متاحة لهم من قبل في عالمنا العربي." إضافة إلى تحقق شرط الانفتاح الكبير على الثقافات العربية والأجنبية من تراث إنساني وآداب وحكايات وأشعار وفلسفات وديانات مختلفة... وكان لهذه العوامل الدور البالغ في تجديد أشكال الشعر العربي. يقول الدكتور أحمد المعداوي:
"" ذلك هو المناخ الذي تنفس فيه الشاعر العربي الحديث, قبل أن يبدأ رحلته العظيمة في المجهول. لقد بدا وهو لا يملك غير ثقافته, وما خلفته الهزيمة في نفسه من ذل وغربة وعذاب, غير أنه كان يملك حريته, وبهذه الحرية استطاع أن يهدم الشكل القديم, وأن يقيم على أنقاضه شكلا جديدا, يملك من الخصائص ما يمنحه القدرة على التعبير عن المضامين الجديدة التي خلفتها النكبة وأمدتها ثقافة الشاعر الحديث بأبعاد فكرية, تبلورت في الرؤيا الجديدة للإنسان والمجتمع والكون ..""
لقد أفرز هذا العصر وهذه العوامل والشروط الأساسية تطورا جوهريا وقويا, تمثل في التحرر من صرامة شكل القصيدة العمودية والثورة على قواعده, وكان مسوغ التجديد هو التعبير, لأن الأشكال القديمة لم تعد تستوعب المضامين والرؤى الجديدة.
وهكذا عرف تاريخ القصيدة العربية منذ عصر النهضة محطات تجديدية قوية, بل ثورة عروضية لم يسبق لها مثيل, تمثلت في خلق أشكال جديدة تستجيب لطبيعة العصر والفكر والرؤى والقناعات... كقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر وتمردهما القوي على القواعد الشعرية القديمة وتكسيرهما لبنية القصيدة العمودية.
نخلص من هذه التجارب والمحطات التطورية في تاريخ الشعر العربي إلى أن للإبداع الشعري إمكانات هائلة تتيحها العوامل المختلفة الذاتية والموضوعية والثقافية والإمكانات التكنولوجية.. والتي تترك باب تجريب أشكال جديدة مفتوحا باستمرار. يقول الدكتور سعيد يقطين: "وانتهى [الأدب بكل أجناسه] منذ أواسط الثمانينات إلى مرحلة جديدة عنوانها الكبير هو التجريب الذي طال مختلف مستوياته وأشكاله وما تزال آفاق هذا التجريب مفتوحة على ممكنات عديدة لما يتم استثمارها بعد على النحو الأمثل والمبدع."
ويقول الأستاذ نجيب العوفي في موضوع تعدد الأشكال الإبداعية: "ـ ثورة الجديد على القديم, شيء طبيعي جدا, ويدخل ضمن طبائع الأشياء.
ولولا دفاع الناس بعضهم بعضا, لفسدت الأرض."
وفي ظل هذا التطور الحتمي للشعر العربي, تجد الأشكال المستحدثة شرعية ولادتها, شريطة أن يعرف الشكل الجديد بخصائصه ومرجعيته المعرفية وضرورته وكيفية تبلوره وتقاطعاته وعلاقاته مع الأشكال الشعرية الموجودة في الساحة الأدبية.. ويجيبوا على جملة من الأسئلة الجوهرية والضرورية, لتثبيت شرعية الشكل الجديد. ومن هذه الأسئلة:
ـ ما الضرورة المعرفية والفنية التي أدت إلى خلق شكل شعري جديد؟
ـ هل استنفدت الأشكال الموجودة كامل طاقتها التعبيرية؟
ـ وما الإضافة الفنية والتعبيرية التي يراهن عليها؟
ـ وهل اتفق شعراء الشكل الجديد على ضوابط مشتركة, أم أن لكل شاعر منهم حرية تحديد ضوابطه؟
ـ هل وصل هذا الشكل الجديد إلى مرحلة النضج والاكتمال؟ أم أنه ما يزال في مرحلة التجريب؟
وعلى النقد الأدبي أيضا أن يلعب دوره في رعاية هذه التجارب الجديدة التي تظهر بين الفينة والأخرى, ويساهم في تبلورها بالطرق المشروعة حتى لا تتحول حرية الإبداع المتاحة في هذا العصر إلى فوضى الأشكال.
لا أحد يستطيع أن يعارض ويرفض حتمية التغيير والتطور التي تطال كل الأجناس الإبداعية. فمعظم الباحثين اليوم يقرون بحتمية التجديد والإبداع والخلق لتلبية حاجة التعبير ومواكبة المستجدات, لكنهم بالمقابل حذرون من هذا السيل الجارف من الأشكال الشعرية. في حوار أجريته مع الناقد المغربي الكبير نجيب العوفي, طرحت عليه السؤال التالي:
ـ أفرز التطور الذي عرفته مختلف الأجناس الأدبية, وعلى رأسها الشعر والقصة, ثورة على الأشكال القديمة بهدف التحرر من صرامتها. (...) هل تعتقد أن الواقع الأدبي قابل لاستيعاب المزيد من الأشكال الجديدة؟ وما موقفك من استحداث أشكال جديدة في الشعر والقصة؟
وهذا مقتطف من جوابه المركز والدقيق:
""ـ ثورة الجديد على القديم, كما ألمحت من قبل, شيء طبيعي جدا, ويدخل ضمن طبائع الأشياء.
ولولا دفاع الناس بعضهم بعضا, لفسدت الأرض.
(.....)
ففي الشعر على نحو خاص, وهو سيد الكلام, لا يمكن إلغاء التاريخ الشعري والذاكرة الشعرية, والانطلاق من الدرجة الصفر في الشعر...والكتابة, ولابد من مراعاة بعض الثوابت والقيم الشعرية التي يستحيل أن تقوم للشعر قائمة بدونها.
وقبل أن نثور على قاعدة إبداعية, ينبغي أن نكون واعين بهذه القاعدة, كما قال إليوت.
تصدق هذه الوَصَاة على القصة والرواية.. وعلى النقد أيضا..
وفي نهاية المطاف, لا يصح إلا الصحيح."