استقراء نص (أيا وَشْمًا بحَرفِ النَّارِ في صَدري) للشاعرة: ثناء صالح
http://www.fonxe.net/vb/showthread.php?p=1667405#post1667405نُشِرَ في منتديات: شبكة الفصيح وغيرِها
نص القصيدة للشاعرة أ. ثريا نبوي
أيا وَشْمًا بحَرفِ النَّارِ في صَدري
وفي إغفاءةِ الذِّكرى على سُرُرٍ من النِّسيانْ
أعودُ إليكِ مخذولًا يؤرِّقُني صدَى الحِرمانْ
أنا مِنْ صُلبِ أشواقٍ إلى السُّقْيا، إلى التَّحنانْ
أنا الثمرةْ
أنا البذرةْ
أعودُ إليكِ ضُمِّيني
سأذوي.. مَن يُداويني؟
فَحيحُ الجَمرِ حين الماءُ يغمُرُهُ
يُطرِّزُ وَعيَ مَن رَحلوا ومَن عَبروا
وما صَبروا
على وحشيَّةِ الصحراءِ أو قَدَريَّةِ العطشِ
ورَجَّعَتِ الفَلا شوقًا إلى المطرِ
أيا بِئرًا بلا دَلْوٍ، وأنتِ الماءُ
والدنيا بلا ماءٍ هي الأوهامْ
أأنتِ خيانةُ الأرزاءِ تجلدُني:
فلا شجرٌ، ولا ظلٌّ، ولا عُشْبٌ، ولا طَلٌّ
وقافلةٌ تسُدُّ الأفْقَ، تحجُبُ فجرَ أيامي
أُهاجِرُ منكِ أو فيكِ أيا صحراءَ آلامي
أيا وشمًا بحرفِ النارِ في صدري
وفي حَتميةِ المنفَى يُمازجُني احتضارُ الشمسِ والقمرِ
ومِن شُرُفاتِه تبدو فضاءاتٌ لعجزٍ يرفضُ التأويلْ
تُلَوِّحُ لي أكُفٌّ هاجَرت منها أصابعُها،
تُشيرُ إلى الغَدِ المجهولْ
أيا دمعًا بحجمِ الليلِ.. يا قدَري
وما زالتْ تُطاردُني على سفحِ المُنى ريحُ الضَّنى المغزولْ
فكيف مسافةُ الأشواقِ أُلغيها، أُعانقُ حُلمِيَ المأمولْ؟
وآنَ ممالكُ الغيماتِ تفتحُ بابَ غَيمتِنا،
وتَأذَنُ للهوى بهطولْ،
أبوحُ بسرِّ أسراري؛
يذوبُ الصخرُ عند شواطئِ البُركانْ
أُحبُّكِ يا شذى أزهارِ وادي الجِنّْ
-غُموضُ الكَونِ عَاقَرَها فباتتْ في العَراءِ تَئنّْ-
لِينداحَ الشَّذى منها مع الأنَّاتِ أُحْجِيَةً تجوبُ الكَوْنْ
وكَمْ للجِنِّ مِن شرَفٍ
إذا اشتعلتْ خُصومتُهم مع الأبناءْ
وإنْ رفعَت عقيرتَها طيورُ البغيِ
تَحدوها مزاميرُ الغَوَى التَّتريِّ؛
مَرَّ النَّصلُ بين الداءِ والأصداءْ
أأُخفي السرَّ والفنجانُ يرصُدُني
وفي كفِّيْ خطوطُ الوَجْدِ ترفِدُني
وأسْتَسْقي على عُمْري
عُقودًا في تمائمِها تعاويذُ انكسارِ الحُبّْ؟!
***
سيأتي القَطْرُ بعد مواسمِ التَّشجيرِ
والتعميرِ، فاعتبري
وبعد الجَدْبِ تَنْضُرُ واحةُ الرَّحماتْ
وتلك مَضارِبُ الأغرابِ فاصطبري
ولا تُهدي الرِّمَالَ جَنينَ أسراري؛
يمُتْ في الرَّمْلِ حُبٌّ عاشَ بالصلواتْ
خَلاصُكِ باتَ مَوسومًا بعُمقِ الجُرحِ في صَدري
فَضُمّيني .. أيا نخلاً تَبَرَّأَ من حنينِ التَّمرْ
أنا المَجبولُ مِن دِبْسٍ، ومِن شَجَنٍ، ومِن أمْسادِ ليلِ القهرْ
تماهتْ في شراييني زُهورُ الوَعدِ بالعِرفانْ
ولُفَّ الحبلُ –ظالِمَتي-على عُنُقي.. فلا غُفرانْ
*****
أيا وَشْمًا بحَرفِ النَّارِ في صَدري
اختارت الشاعرة للقصيدة عنوانا طويلا غير مستقل عنها .بل هو سطرها الشعري الأول والمرتبط عضويا بما يأتي بعده . وبنته إنشائيا على أسلوب النداء المفتوح والذي يستدعي المنادى ( مصر الأم أو القاهرة ) ، فأصبحت جملة العنوان غير المنفصلة بوابة القصيدة المفتوحة ، والتي ما أن يمر بها القارئ حتى يجد نفسه بغتة مندفعا في التيار الداخلي للمناجاة . ومعرضا لمفاجآتها المتوالية مع الجمل الشعرية المنبثقة بعدها آنيا.
أيا وَشْمًا بحَرفِ النَّارِ في صَدري
" أيا " أداة النداء للبعيد، فيما المنادى قريب ، إلى درجة أن يكون وشما ملتصقا بالصدر .
فنادت الشاعرة القريب بأداة البعد، لتشكل عفويا ومع أول كلمة في القصيدة مفارقة تصلح لتكثيف مضمون القصيدة كاملة . والتي سنقرأ فيها تفاصيل هذه المفارقة بين انخذال المحب المتقرب المحتاج ، وإهمال المحبوبة المتخلية المعرضة .
أيا وَشْمًا بحَرفِ النَّارِ في صَدري
وفي إغفاءةِ الذِّكرى على سُرُرٍ من النِّسيانْ
أعودُ إليكِ مخذولًا يؤرِّقُني صدَى الحِرمانْ
أنا مِنْ صُلبِ أشواقٍ إلى السُّقْيا، إلى التَّحنانْ
أنا الثمرةْ
أنا البذرةْ
أعودُ إليكِ ضُمِّيني
سأذوي.. مَن يُداويني؟
يؤلمك الوشم حين تحفره بالنار في جلد الصدر . ولكنه بعد ذلك يهدأ ويغفو ، ويصبح علامة باردة لذكرى غافية على سرر النسيان . ولا يمكنك إلا أن تعود إليه ( أعود إليكِ) كلما انخذلت وضج فيك صدى احتياجك غير الملبى ،فتأرقت بحرمانك لتعود وتشتكي.
أعودُ إليكِ مخذولًا يؤرِّقُني صدَى الحِرمانْ
تولد الشاعرة جملها الشعرية بالطريقة الانبثاقية نفسها التي يعمد إليها الذهن في عملية التداعي الذهني. فالرابط المعنوي بين الوشم على الصدر، وإغفاءة الذكرى على سرر النسيان هو رابط ذهني نفسي تتيحه المشابهة بين معنى الوشم ومعنى الذكرى الغافية .
ولولا جملة " أعود إليك " لما كان هناك من طريقة لمحورة معنى الوشم الذي كرسته*** الشاعرة بعنوان القصيدة ليكون مخاطبا على مدى المناجاة الداخلية في جسد القصيدة .
ثم تبدأ مع كلمة " أنا " عملية تحديد وتعريف شخصية المناجي، والذي جاءت القصيدة على لسانه، بوصفه حامل الوشم المعذب المحروم .
أنا مِنْ صُلبِ أشواقٍ إلى السُّقْيا، إلى التَّحنانْ
أنا الثمرةْ
أنا البذرةْ
لقد عودتنا لفظة " صلب " بتاريخها الدلالي المعنوي على اتخاذها كلمة مرور لدخول حقل علاقة (البنوة - الأبوة - الأمومة ) ، و(أنا من صلب أشواق إلى السقيا، إلى التحنان ) تعني: أنني أنا ابن العطش ،ابن القسوة.
أنا الثمرة " التي تنتج عن التكاثر والتوالد . و" أنا البذرة " التي ستكمل عملية التناسل.فإذن: أنا الامتداد . و" أعودُ إليكِ ضُمِّيني*** .سأذوي مَن يُداويني؟"...تحتاج البذرة لمن يضمها . وإذا ذوت بجفافها تعطلت ، فمن يداويها ليعيد إليها حيويتها ؟
هذا، وتكون الشاعرة قد أتمت بسؤالها الأخير فكرة المقطع التي تمثل حرمان الابن من رعاية الأم .وفي خلفية هذا التشكيل الفني تطل تصوراتنا التي شكلتها الشاعرة عن الأثار النفسية التي يعانيها الإنسان المهدد بالحرمان المستمر من أمنه النفسي مع افتقاد العدالة وأبسط مقومات العيش الكريم .
فَحيحُ الجَمرِ حين الماءُ يغمُرُهُ
يُطرِّزُ وَعيَ مَن رَحلوا ومَن عَبروا
وما صَبروا
على وحشيَّةِ الصحراءِ أو قَدَريَّةِ العطشِ
ورَجَّعَتِ الفَلا شوقًا إلى المطرِ
إن فحيح الأفاعي ينذر بالشؤم دائما. وتستعير الشاعرة هذا الفحيح لتمنحه للجمر الذي ما زال يحتفظ بجذوة النار في داخله. فإذا ما غمره الماء انطفأ.لكنه حين انطفائه يفح فحيحا مؤثرا. فلا نكاد نعرف حقيقة موقف الشاعرة من الجمر ، هل هو تعاطف معه لأنه انطفا واعترض بالفحيح على انطفائه لأنه من حيث كونه جمرا يرغب بالحفاظ على نار جمريته ؟ أم هو موقف غبطة للجمر الذي تلظى واحترق ثم تلقى أخيرا المساعدة بالماء الذي انسكب عليه فأطفأه ليفح فحيحه امتنانا ؟ وفي كل الأحوال ، لقد كان هذا الفحيح مؤثرا في لحظته، لأنه "طرز " أي "نقش على وعي الراحلين الذين لم يستطيعوا الصبر على وحشية العطش في تلك الصحراء القائظة .فأثر الفحيح المنقوش استمر في وعي الراحلين العابربن غير الصابرين على العطش .
وأما قسوة اللفظ " الفحيح " فهي إنذار الخطر المكروه والمستعار من صوت الأفاعي.
أيا بِئرًا بلا دَلْوٍ، وأنتِ الماءُ
والدنيا بلا ماءٍ هي الأوهامْ
"أيا بئرا بلا دلو " فيك الماء وما من وسيلة لاستخراجه منك . أنت الماء وأنت من تمنعين نفسك عنا. ..أنت من تحجبين ثرواتك ونعمتك عن محتاجيها...فكيف يفسر هذا البخل وهذا المنع سوى بالخيانة ؟
أأنتِ خيانةُ الأرزاءِ تجلدُني:
فلا شجرٌ، ولا ظلٌّ، ولا عُشْبٌ، ولا طَلٌّ
وقافلةٌ تسُدُّ الأفْقَ، تحجُبُ فجرَ أيامي
أُهاجِرُ منكِ أو فيكِ أيا صحراءَ آلامي
خيانة المتحكمين الذين لم يكترثوا بمتطلبات الحياة لشعب جفت حياته وافتقدت خضرتها ونضارتها. فلا شجر ولا ظل ولا عشب ولاطل ...إنها صحراء آلام على مد النظر . ولا يبقى سوى هجرة الظامئين بحثا عن منفى يقيهم آلام الاحتضار.
أيا وشمًا بحرفِ النارِ في صدري
وفي حَتميةِ المنفَى يُمازجُني احتضارُ الشمسِ والقمرِ
ومِن شُرُفاتِه تبدو فضاءاتٌ لعجزٍ يرفضُ التأويلْ
تُلَوِّحُ لي أكُفٌّ هاجَرت منها أصابعُها،
تُشيرُ إلى الغَدِ المجهولْ
الهجرة التي تشبه اقتلاع الأصابع من الأكف هي الحل الوحيد للعجز الذي لا يمكن تفسيره أو معالجته، بسبب من يرغبون بتعزيزه.
نلاحظ كيف تشتغل الشاعرة برسم مساحة تعبيرية ضيقة للاحتمالات الممكنة لمصير هذا الابن الذي يمتزج باحتضار الشمس والقمر .
"فحتمية المنفى " قرار يتخذه كل مهاجر مضطر لترك وطنه خشية الموت ظمأ.والحتمية مصير مؤكد لا خيار فيه ولا احتمال. كما أن الامتزاج باحتضار الشمس والقمر في المنفى يؤكد قسوة التغرب ،ويؤكد الاحتضار الذي فر منه أصلا ذلك المنفي . فهو هارب من احتضاره في الوطن إلى احتضاره في المنفى .
ثم إن انتداب الشمس والقمر ليقوما بفعل الاحتضار يشهد على المباشرة في سوداوية*** الرؤية وانغلاقها .
وفي حَتميةِ المنفَى يُمازجُني احتضارُ الشمسِ والقمرِ
ومِن شُرُفاتِه تبدو فضاءاتٌ لعجزٍ يرفضُ التأويلْ
وحينما يلمح القارئ ظل انفراج مع لفظة " شرفات " ولفظة " فضاءات " تسرع الشاعرة لتضيف الشرفات إلى المنفى. وتنسب الفضاءات للعجز . وهو عجز غير قابل للتأويل هناك. غير قابل للحل . إذن فإذا كان ثمة انفراج، فسوف تحيطه الشاعرة باختناق وانغلاق وانبتار .إن صورة الأكف التي هاجرت منها أصابعها وهي تلوح لذلك الابن المنفي مثيرةً خوفه من الغد المجهول ، هي تشكيل فني ذو بعدين تعبيريين. فمن جهة الوطن يبقى الكف عديم الأصابع كالأرض المهجورة التي فقدت قدرتها على الفعل مع هجرة أصابعها الفاعلة . ومن جهة الابن المنفي تمثل الأكف عديمة الأصابع لحظة الانبتار أو الانفصال عن الجسد الأم ، حيث لا يبقى سوى الخوف من الغد المجهول الذي تشير إليه تلك الأكف.
تُلَوِّحُ لي أكُفٌّ هاجَرت منها أصابعُها،
تُشيرُ إلى الغَدِ المجهولْ
إن هذه التصورات الخانقة المطبقة على النفس لا يجد معها صاحبها راحة إلا بإرسال الدموع لتنهمر بحجم الليل .فيتحول الخطاب إلى استفهام يبحث عن أساليب تفريغ شحنات الهم والألم
أيا دمعًا بحجمِ الليلِ.. يا قدَري
وما انفكّتْ تُطاردُني على سفحِ المُنى ريحُ الضَّنى المغزولْ
فكيف مسافةُ الأشواقِ أُلغيها، أُعانقُ حُلمِيَ المأمولْ؟
وآنَ ممالكُ الغيماتِ تفتحُ بابَ غَيمتِنا،
وتَأذَنُ للهوى بهطولْ،
أبوحُ بسرِّ أسراري؛
يذوبُ الصخرُ عند شواطئِ البُركانْ
يحلم الحالم بأن ممالك الغيمات ستفتح باب غيمته لتسمح لها بالهطول أو بالتعبير عن الهوى الذي هو سر أسرار النفس. وعندها سيذوب الصخر الذي يمثل القسوة عند شواطئ البركان المنبثق بحرارة تذيب الصخر .
ويبدأ البوح بسر الأسرار:
أُحبُّكِ يا شذا أزهارِ وادي الجِنّْ
-غُموضُ الكَونِ عَاقَرَها فباتتْ في العَراءِ تَئنّْ-
لِينداحَ الشَّذا منها مع الأنَّاتِ أُحْجِيَةً تجوبُ الكَوْنْ
وكَمْ للجِنِّ مِن شرَفٍ
إذا اشتعلتْ خُصومتُهم مع الأبناءْ
وإنْ رفعَت عقيرتَها طيورُ البغيِ
تَحدوها مزاميرُ الغَوَى التَّتريِّ؛
مَرَّ النَّصلُ بين الداءِ والأصداءْ
أأُخفي السرَّ والفنجانُ يرصُدُني
وفي كفِّيْ خطوطُ الوَجْدِ ترفِدُني
وأسْتَسْقي على عُمْري
عُقودًا في تمائمِها تعاويذُ انكسارِ الحُبّْ؟!
***
تهندس الشاعرة غرائبية الموجودات في واد الجن ، حيث الأنين المتصاعد من مساحة في العراء يتخاصم فيها الجان وأبناؤهم.
وحيث ترتفع أصوات طيور البغي تصحبها مزامير الضلال التتري...
ويمر نصل السكين ليذبح أو ليقطع الصلة التاريخية بين الداء الذي يسكن جسم الابن والأصداء التي تأتيه من الخارج. هكذا عالم لا يمكن إخفاؤه إذا كانت قراءة الطالع في الفنجان ستظهر المخفي منه.
ويلبس الابن عقوده التي علق فيها تمائم وتعاويذ تمنع الحب من الانكسار.
أرادت الشاعرة أن تشكل هذا العالم السحري الغريب بأسلوب تعبيري لولبي تقودنا الجملة الشعرية الغريبة فيه إلى جملة شعرية أشد غرابة وأعلى في مستوى التوهم والخيال.
كل ذلك لتثبت أن التمسك بذلك الحب هو قدر حقيقي متشعب متلولب يطوف بقلب المحب وينقله إلى عالم منفصل لا يمكن الإحاطة بتفاصيله المدهشة.
ومما يلفت النظر في المقطع السابق نفسه تغيير وتيرة الإيقاع الذي أصبح فجأة أسرع وأخف وتتابعت فيه النون الساكنة في قافية مقيدة يكاد صدى إيقاعها يشبه طرقات مبتورة على طبل بعيد ( دن ...دن..دن...)
أُحبُّكِ يا شذا أزهارِ وادي الجِنّْ
-غُموضُ الكَونِ عَاقَرَها فباتتْ في العَراءِ تَئنّْ-
لِينداحَ الشَّذا منها مع الأنَّاتِ أُحْجِيَةً تجوبُ الكَوْنْ
ولم تشأ الشاعرة بعد أن حملتنا إلى تلك الروعة المخطوفة من وادي الجن أن تعود بنا محملين باليأس الذي أودعتنا إياه مسبقا
فبدأت بحملة تعبير تبشيرية تغرس فيها بذور الأمل في نفوسنا
سيأتي القَطْرُ بعد مواسمِ التَّشجيرِ
والتعميرِ، فاعتبري
وبعد الجَدْبِ تَنْضُرُ واحةُ الرَّحماتْ
وتلك مَضارِبُ الأغرابِ فاصطبري
ولا تُهدي الرِّمَالَ جَنينَ أسراري؛
يمُتْ في الرَّمْلِ حُبٌّ عاشَ بالصلواتْ
إنها وصايا الابن المنفي وصلواته للأرض التي غادرها، أن تحفظ عهده وتنتظر عودته من مضارب الأغراب.
خَلاصُكِ باتَ مَوسومًا بعُمقِ الجُرحِ في صَدري
فَضُمّيني .. أيا نخلاً تَبَرَّأَ من حنينِ التَّمرْ
أنا المَجبولُ مِن دِبْسٍ، ومِن شَجَنٍ، ومِن أمْسادِ ليلِ القهرْ
تماهتْ في شراييني زهورُ الوَعدِ بالعِرفانْ
ولُفَّ الحبلُ –ظالِمَتي-على عُنُقي.. فلا غُفرانْ
*****
الأمل بالخلاص موسوم بعمق الجرح الذي حمله الابن في صدره وشما. وهو عندما يطلب منها أن تضمه إليها يريدها أن تتراجع عن نفيه. فهو يسميها في هذه اللحظة " نخلا تبرأ من حنين التمر " التمر ثمر النخل فإذا تبرأت النخلة من ثمرتها فالأم متبرئة من ابنها. وعندما يطلب منها أن تضمه من جديد ذلك يعني أنها ستعلن انتماءه إليها وهو المجبول من دبس ومن شجن ومن أمساد ليل القهر . إن ما يحمله في جبلته لا يمكن أن ينساه أو يتخلى عنه. وفي حين أنها تعده وتعده بالعرفان لا بالنكران . يجد نفسه وقد التف حبل المشنقة على عنقه بنوع من أنواع الخديعة التي تمارسها عليه بوعودها الكاذبة. لذا ينقلب ضدها في آخر لحظة ومع حبل المشنقة الذي يلتف حول عنقه ويناديها : ظالمتي!
فلا غفران لها.
تماهتْ في شراييني زهورُ الوَعدِ بالعِرفانْ
ولُفَّ الحبلُ –ظالِمَتي-على عُنُقي.. فلا غُفرانْ
*****
لقد كانت قصيدة ملحمية نقلتنا إلى أجواء أسطورية تسربت أبخرتها من كُوى التعبير الشعري وفتحاته الدقيقة. وبدت فيها الشاعرة مع ذلك الأسلوب المتحول لحظيا ذات أجنحة أسطورية فينيقية حقا. تمدها في مساحات لا ورائية
على الرغم من أنها لم تعالج سوى قضية سياسية حياتية واقعية يعيشها الإنسان المخذول في وطنه والذي يحاول أن يقف ويثبت على قدميه في أرضه ،فتطاله حبال الخديعة السياسية لتلتف حول عنقه .
وفي الختام، أقدم للشاعرة الفذة تحيتي القلبية ومشاركتي الوجدانية لكل ما لاح لي من إحاسيس وجدانية زخرت بها القصيدة وما أجدتُ التعبير عنها.
تقديري والتحية
[أقدم للشاعرة الفذة تحيتي القلبية ومشاركتي الوجدانية لكل ما لاح لي من أحاسيس وجدانية زخرت بها القصيدة وما أجدتُ التعبير عنها.]
ياااااااااااااا الله على الجمالِ السَّيَّال
كلُّ هذا الإبداع في القراءةِ ونُبْلِ التواصُلِ والاهتمام
ثُمّ تعتبرينَ أنكِ ما أجدتِ؟
بلْ أجدتِ وأبدعتِ وأفضتِ النورَ على كل رُكنٍ في النَّصّ؛ حتى تلألأتِ المعاني
وأشرقتِ الروحُ مع شمسِ هذا الحُضورِ الصَّبورِ الوضَّاءِ الباذِخ على شواطئِ القصيد.
وإنه واللهِ لَشَرفٌ كبيرٌ حَطَّ رِحالَهُ هُنا مع هذا الفيضِ النَّدِيّ، والسَّبرِ البهيّ لأغوارِ المقاصِد
فجزاكِ اللهُ خيرًا وأنتِ تُطرِّزينَ بخيوطٍ مِن حريرِ الفرحةِ ثوبَ الكلمات.
أمّا هُنا:
[فَحيحُ الجَمرِ حين الماءُ يغمُرُهُ
يُطرِّزُ وَعيَ مَن رَحلوا ومَن عَبروا
وما صَبروا
على وحشيَّةِ الصحراءِ أو قَدَريَّةِ العطشِ
ورَجَّعَتِ الفَلا شوقًا إلى المطرِ]
فأُجيبُ على سؤالِكِ بأنني رأيتُ أن هذا الفحيحَ المُصاحِبَ لإطفاءِ الجمر؛ وقد باتَ محفورًا في الوِجدان؛ ما كان لِينساهُ الأبناءُ المُهاجِرون؛ فقد شكَّلَ وعيَهم بأنها هي "الماءُ" الذي لا مَفرَّ من العودةِ إليه؛ لِيُطفئَ ظمأهُم وأشواقَهم إليها آنَ تُمطِرُهم غيمةُ أُمومتِها ورعايتِها وعطفِها؛ وحتى "اشتعالاتُهم غَضبًا منها"؛ هي ولا سِواها؛ مَنْ ينتظرونَ منها إطفاءَها؛ مهما غادرَهُمُ الصبرُ؛ فهي الملاذُ والحِضنُ؛ لأن هذا الحُبَّ قَدرِيٌّ:
لا تمحوهُ الغُربةُ والأيام، ولا القسوةُ والحرمان، يَتوقونَ إليها تَوقَ الصحراءِ إلى الغيثِ؛ تُرجِّعُ غِناءَها له
الشاعرة المُبدِعة والناقدة القديرة:
أ. ثناء حاج صالح
دُمتِ للشعرِ والنقدِ والأدبِ نهرًا فيَّاضًا بالعطاء
ومِنّي: بُستانُ وردٍ جوريٍّ نَديّ لجمالِ روحِكِ ووارِفِ كلماتِك
وعلى الخيرِ نلتقي في ظلال شجرة الأدب الوارفة دومًا بأمرِ الله
:
أسعدني استقراء قصيدتك الرائعة بقدر ما أسعدني استقراء جمال تفاعلك وتألق حضورك وإشعاع روحك.
بوركت دائما وأبدا .
وأرجو أن يكون لنا لقاءات غير منقطعة .
محبتي وتقديري وأجمل تحية للأستاذة الشاعرة النضرة ثريا نبوي